الإنتماء الأول والأكبر والأساسى، بالنسبة للمسلم، هو الإسلام وأمته، وإلى دار الإسلام وحضارته.
وفى القرآن الكريم يخاطب الله سبحانه وتعالى المؤمنين، على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم فيقول: {قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِى سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِىَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِى الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة:24].
لكن الإنتماء الأول والأكبر والأساسى، لا يعنى إنكار وجود إنتماءات ثانية، وصغرى وفرعية.. فتلك حقيقة تشهد عليها الفطرة السليمة لدى الإنسان.. فلدى المسلم السوىّ، الذى يمثل الإنتماء الإسلامى هويته الأولى وجامعته العظمى، والجسد الواحد.. لدى هذا الإنسان إحساس فطرى أن له إنتماءات وولاءات صغرى وفرعية، تلى الإنتماء الإسلامى، ولا تتعارض معه.. فالأمة الإسلامية كالجسد الواحد، لكن لهذا الجسد أعضاء، لا ينفى تميزها وتفاوتها وَحْدة هذا الجسد.. والفطرة الإنسانية تشهد على أن للإنسان منا ولاء وإنتماء إلى الأهل، بمعنى الأسرة والعشيرة.. وإلى الشعب فى الوطن والإقليم الذى تربى ونشأ فيه.. وإلى الأمة -الجماعة- التى يتكلم لسانها وهى الأمة بالمعنى القومى وإلى الأمة الجماعة التى يشترك معها فى الإعتقاد الدينى.. ثم إلى الإنسانية، التى خلقه الله وإياها من نفس واحدة..
تشهد الفطرة السليمة، لدى الإنسان السوى على ذلك.. دونما تناقض أو تعارض بين هذه الدوائر فى الولاء والإنتماء.. فهى أشبه ما تكون بدرجات سلم واحد، يفضى بعضها إلى بعض، ويدعم أحدها الآخر، وخاصة بل بشرط أن تخلو مضامين مصطلحات دوائر الإنتماء وبالذات -الوطنية والقومية- من المضامين العنصرية ونزعات الغلو فى التعصب، التى تقطع الروابط بين هذه الدوائر للإنتماء.. فلا مشكلة فى تعدد دوائر الإنتماء، طالما قام وربط بينها رابط الإنتماء الأكبر وهو الإنتماء إلى الإسلام..
وهذه الحقيقة، التى تشهد عليها الفطرة، يشير إليها القران الكريم عندما يقول: {النَّبِىُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُوْلُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِى كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلاَّ أَن تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفاً كَانَ ذَلِكَ فِى الْكِتَابِ مَسْطُوراً} «الأحزاب: 6».. فالرسول صلى الله عليه وسلم بإعتبار الرسالة الإسلامية أولى بالمؤمنين حتى من أنفسهم.. وهذا هو معنى الولاء والإنتماء حتى درجة الفناء -فى الإسلام- لتحقيق الحياة والإحياء بهذا الإسلام!... وفى داخل هذا الإنتماء الأعظم والأول هناك الإنتماء إلى أولى الأرحام -وما يترتب عليه من أولويات فى المواريث وغيرها- فهم أولى ببعض... ولا تناقض بين الولاء الخاص وبين الولاء العام.
وكذلك الحال -مع هذه الشواهد على تعدد دوائر الإنتماء دونما تناقضات بينها- إذا عاد الإنسان إلى فطرته السليمة.. فإنه سيجد حنينا خاصا إلى المكان الذى ولد فيه.. وولاء للوطن الذى ضمن له الرعاية والحماية والخدمات.. وإنتماء للوطن الأكبر، الذى كونت ذكريات إنتصاراته وطموحاته وآماله وآلامه مخزون التاريخ والتراث اللذين شكلا ويشكلان تميز هوية هذا الإنسان.. فهى ولاءات متداخلة تنتمى إلى الولاء الأكبر، إنتماء الفروع المتعددة إلى الشجرة الواحدة..
وإذا كانت دار الإسلام هى الوطن الأكبر بالنسبة للمسلم، فإن هذا لا يعنى إنتفاء حب المسلم لوطنه الأصغر الذى نشأ فيه.. فالجهاد فى سبيل الوطن الأصغر فرض عين، بينما هو فيما وراء ذلك من أقاليم الوطن الأكبر من فروض الكفايات.. والأقربون أولى بالمعروف.. والزكوات والصدقات لا تخرج من القرية أو الإقليم، أو الوطن إلا بعد كفاية ساكنيه.. وتلك شواهد على إتساق الأحكام الشرعية والتكاليف الإسلامية مع توالى وتدرج وترابط دوائر الإنتماء الإسلامى فى إطار دار الإسلام.
ولا يحسبن البعض أن حب الوطن الصغير -الإقليم- مرهون بسيادة كامل الإسلام فى دولته ومؤسساته وحياته.. ذلك أننا إذا لم نحب الأوطان التى تشوب الشوائب إسلامية نظمها، والتى خلطت دولها عملا صالحا بآخر سيئ، فلن نخلص الجهاد فى سبيل تحريرها من هذا الذى طرأ على الإسلام فيها وإلا فكيف أجاهد فى سبيل وطن لا أحبه؟!.
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو القدوة والأسوة فى هذا المقام.. فمكة، قلعة الشرك، التى حاصر أهلها دعوة الإسلام وإستفزوه من الأرض إخراجا، وهموا ليثبتوه ويسجنوه.. بل ودبروا لقتله.. مكة هذه، وهى على هذا الحال، ظل القلب النبوى جياشا بحبها.. حتى لقد ناجاها صلى الله عليه وسلم لحظة الإخراج منها يوم الهجرة فقال صلى الله عليه وسلم: «والله إنك لأحب البلاد إلى الله.. وأحب البلاد إلىّ، ولولا أن أهلك أخرجونى منك ما خرجت»!.. بل وظل قلبه صلى الله عليه وسلم جياشا بحب مكة وهو فى المدينة، حتى لقد كان يدعو ربه أن يحبب إليه المدينة كحبه لمكة.. وكان حريصا فى المدينة على أن يسمع من القادمين من مكة وصف معالمها والتذكير بمشاهدها.. وعندما كانت الأوصاف تؤجج المشاعر، كان يطلب من الواصفين التوقف لتقَرّ القلوب!..
وكذلك الحال مع الدائرة التالية الوطن- الإقليمى أى الوطن- القومى..
إن القوم.. الذى إشتقت منه القومية.. هو مصطلح عربى- قرآنى وفى القرآن الكريم حديث عن العرب، قوم الرسول صلى الله عليه وسلم {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ} [الزخرف:44].
فقوم الإنسان هم الدائمو الإقامة معه، والذين تربطهم به الروابط التى إصطلح على تسميتها سمات القومية وهى التى تحدد اللغة دائرتها وخريطتها..
فالقومية، فى الرؤية الإسلامية: هى الدائرة اللغوية فى إطار الإنتماء الإسلامى الأكبر.. وعالمية الإسلام لابد وأن تشمل أقواما تميزهم اللغات والألسنة {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ} [الروم:22].. فإذا كان إختلاف اللغات سنة وآية من سنن الله وآياته، فلابد وأن تشمل عالمية الإسلام أقواما وقوميات تتمايز لغويا -أى قوميا- فى إطار محيط ودائرة الإنتماء الإسلامى الأول..
وإذا كان الغلو فى العصبية الوطنية هو الذى يجعل الوطنية قطيعة مع ما يليها من دوائر الإنتماء القومى والإسلامى، ومن ثم يخرجها عن أن تكون إنتماءً فرعيا فى إطار الإنتماء الأكبر، ويجعلها نهاية المطاف وغاية الأفق، بدلا من أن تكون درجة فى سلم الإنتماء المتعدد الدرجات وهذا اللون من الوطنية هو المرفوض إسلاميا فإن القومية إذا خرجت مضامينها عن دائرة اللغة، وأصبحت عرقا وعنصرا، يعزل القوم عن الدائرة الإسلامية، أو يضعهم فى تناقض مع الملة، فإنها تخرج بهذا المفهوم والمضمون عن أن تكون حلقة وصل بين الوطنية وبين الجامعة الإسلامية، وتتحول من درجة فى سلم إنتماء أكبر إلى عازل بل ونقيض للوطنية وللإسلامية معا وهذا هو المعنى والمضمون المرفوض إسلاميا.
ولقد حدد رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا المضمون اللغوى للعروبة، عندما إستنكر أن تكون العصبية العرقية والنسبية -وهى عصبية الجاهلية التى أسقطها الإسلام- هى معيار التحديد لمن هو العربى فقال صلى الله عليه وسلم: «ليست العربية بأحدكم من أب أو أم، وإنما هى اللسان، فمن تكلم العربية فهو عربى» رواه ابن كثير عن معاذ بن جبل -تهذيب تاريخ ابن عساكر، ففى دائرة الأمة الإسلامية، ودار الإسلام، والإنتماء الإسلامى دوائر لغوية أى قوميات.. وإذا نحن نزعنا المضامين العنصرية التى تجعل القوميات عوامل تشرذم للإنتماء الإسلامى، فإن هذا الإنتماء الإسلامى سيحتضن محيطه الجزر القومية فى عالم الإسلام.. وهذه الحقيقة أشد وضوحا مع القومية العربية لأن إعتماد العربية كلغة معيار التحديد العربى والقوم العرب سيدخل العروبة فى النسيج الإسلامى إدخالا عضويا، لأن العربية التى هى معيار القومية العربية وراسمة حدود القوم العرب هى فى ذات الوقت لسان الإسلام، وخاصية الإعجاز القرآنى، وسبيل الإجتهاد وإستنباط الأحكام من المصادر الأصلية للإسلام..
وكذلك الحال مع الدائرة الإسلامية والجامعة الإسلامية وهى دائرة الإنتماء الأكبر.. فعلينا أن نراها محتضنة ومستوعبة لدوائر الإنتماء الفرعية وطنية.. وقومية.. بل وأحيانا قَبَلِيّة وعشائرية وأن نرفض التناقض الذى يفتعله البعض بينها وبين الولاءات والإنتماءات الفرعية والصغرى..
إن الوقوف عند الدائرة الوطنية..القطرية..الإقليمية، هو مفهوم عنصرى ضيق الأفق لمصطلح الوطنية وكذلك الحال مع الوقوف عند الدائرة القومية.. عربية أو غير عربية.. مع إسقاط الدائرة الإسلامية.. هو الآخر مفهوم عنصرى ضيق الأفق لمصطلح القومية -طرأ على فكرنا من المفاهيم القومية الغربية- التى تشابه العصبية الجاهلية الأولى!..
وإذا نحن إكتشفنا وإعتبرنا علاقة الأخص بالخاص بالعام بالأعم لدوائر الوطنية والقومية والجامعة الإسلامية والإنسانية، إنتفت هذه التناقضات المفتعلة، وذلك بإحلال منهاج الفطرة الإنسانية السليمة محل المفاهيم العنصرية الطارئة على حياتنا الفكرية العربية الإسلامية.
ولقد كانت اليقظة الإسلامية المعاصرة على وعى بالمنهاج الإسلامى فى هذا الموضوع، فصاغت الموقف الفكرى الإسلامى فيه.. ومارست عملها عبر الدوائر الثلاث.. الوطنية.. والقومية.. والإسلامية، دونما إعتبار للعصبيات والتشرذم الإقليمى والعنصرية القومية..
فالإمام محمد عبده، عندما سئل وهو مفتى الديار المصرية عن موقف الإسلام من الجنسيات التى تمزق الوطن الحضارى.. وهل لها مكان فى الإسلام.. وعن حكم المسلم، إذا دخل بمملكة إسلامية، هل يُعدّ من رعيتها؟ له ما لهم وعليه ما عليهم، على الوجه المطلق؟ وهل يكون تحت شرعها فيما له وعليه، عموما وخصوصا؟ وما هى الجنسية عندنا؟ وهل حقوق الإمتيازات، المعبر عنها عند غير المسلمين بالكبيتولاسيون -Capitlations- موجودة بين ممالك الإسلام مع بعضهم بعضا؟
جاء فى فتواه: إن وطن المسلم من البلاد الإسلامية هو المحل الذى ينوى الإقامه فيه، ويتخذ فيه طريقة كسبه لعيشه، ويقر فيه مع أهله، إن كان له أهل، ولا ينظر إلى مولدُه، ولا إلى البلد الذى نشأ فيه ولا يلتفت إلى عادات أهل بلده الأول، ولا إلى ما يتعارفون عليه من الأحكام والمعاملات، وإنما بلده ووطنه الذى يجرى عليه عرفه وينفذ فيه حكمه هو البلد الذى إنتقل إليه وإستقر فيه، فهو رعية الحاكم الذى يقيم تحت ولايته، دون سواه من سائر الحكام، وله من حقوق رعية ذلك الحاكم ما لهم وعليه ما عليهم، لا يميزه عنهم شىء، لا خاص ولا عام.
أما الجنسية فليست معروفة عند المسلمين، ولا لها أحكام تجرى عليهم، لا فى خاصتهم ولا عامتهم، وإنما الجنسية عند الأمم الأوروبية تشبه ما كان يسمى عند العرب عصبية، وهو إرتباط أهل قبيلة واحدة أو عدة قبائل بنسب أو حلف يكون من حق ذلك الإرتباط أن ينصر كل منتسب إليه من يشاركه فيه، وقد كان لأهل العصبية ذات القوة والشوكة حقوق يمتازون بها عن سواهم.
جاء الإسلام فألغى تلك العصبية، ومحا آثارها، وسوى بين الناس فى الحقوق، فلم يبق للنسب ولا لما يتصل به أثر فى الحقوق ولا فى الأحكام فالجنسية لا أثر لها عند المسلمين قاطبة، فقد قال صلى الله عليه وسلم «إن الله أذهب عنكم عُبِّية الجاهلية أى عظمتها وفخرها بالآباء، وإنما هو مؤمن تقى وفاجر شقى، الناس كلهم بنو آدم، وآدم خلق من تراب» رواه أبو داود، وروى كذلك عنه صلى الله عليه وسلم: «ليس منا من دعا إلى عصبية» وفى البخارى ومسلم والترمذى والنسائى وابن ماجة والإمام أحمد: «ليس منا من دعا بدعوى الجاهلية».
وبالجملة، فالإختلاف فى الأصناف البشرية كالعربى والهندى والرومى والشامى والمصرى والتونسى والمراكشى، مما لا دخل له فى إختلاف الأحكام والمعاملات بوجه من الوجوه، ومن كان مصريا وسكن فى بلاد المغرب وأقام بها جرت عليه أحكام بلاد المغرب، ولا ينظر إلى أصله المصرى بوجه من الوجوه.
وأما حقوق الإمتيازات المعبر عنها بالكابيتولاسيون، فلا يوجد شىء منها بين الحكومات الإسلامية قاطبة.. هذا ما تقضى به الشريعة الإسلامية، على إختلاف مذاهبها، لا جنسية فى الإسلام، ولا إمتياز فى الحقوق بين مسلم ومسلم، والبلد الذى يقيم فيه المسلم من بلاد المسلمين هو بلده، ولأحكامه عليه السلطان دون أحكام غيره، والله أعلم -تاريخ هذه الفتوى 9 رمضان سنة 1322 هـ 17 نوفمبر سنة 1904 م -الأعمال الكاملة للإمام محمد عبده.
ففى دار الإسلام تتمايز الألسنة والقوميات والأوطان والأقاليم وفروع الأحكام.. ويظل الإسلام الإنتماء الأول والأكبر والأساسى بالنسبة لأمة الإسلام.
ذلك منهاج الفطرة الإسلامية -الذى هو منهاج الفطرة الإنسانية السليمة- {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِى فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَىِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [الروم:30].. تعددية وتكامل فى دوائر الإنتماء.
الكاتب: أ. د. محمد عمارة.
المصدر: موقع الجمعية الشرعية الرئيسية.